تقدمت إحدى شركات الاتصالات بعَرض تركيب برج لخدمات التليفون المحمول في بناية يقطنها أحد الأصدقاء؛ فعرض مسئول العمارة الأمر على السكان عبر الملتقى الاجتماعي (جروب Group)؛ فانبرت الآراء في لحظات بين مُعارضٍ بحجة خطورتها على الصحة مما يعرض السكان للإصابة بأمراض خطيرة، وخاصة الأطفال منهم، ومؤيد يرى فيما ينشر من نواح سلبية محض إشاعات غاب عنها الدليل العلمي، فضلاً عن سباحتنا في محيطات موجات لا سلكية لا يستهان بتأثيراتها.
وفئة ثالثة –عين في الجنة وعين في النار- فالمقابل السنوي لإيجار السطوح يفوق مدفوعات الصيانة الشهرية، ويسمح بإعادة طلاء وتجديد عمارة كانت ذات يوم نوارة الشارع وسكن المحظوظين، ومن جهة أخرى يخشون المخاطرة بصحتهم -إن صح كلام المعترضين. ترفعهم أمانيهم إلى عنان السماء ويخسف بهم الخوف إلى سابع أرض.
تحول (جروب) التواصل من فضاء للطرائف، والتهاني، والمواساة إلى ساحة للعراك المعلوماتي بين فريقين متعارضين، يضع هذا رابط يؤكد أن لا مخاطر من أبراج المحمول، فيرد عليه الآخرون بسيل من روابط التحذير؛ توترت الأجواء وارتفعت حساسية النقاشات، ونشأت تكتلات مع وضد. قرابة ثلاثة أسابيع؛ ولا صوت يعلو فوق خناقات برج الاتصالات.
حتى كان يوم ألقى فيه أحد السكان سؤالاً على الجروب، فران صمتٌ عميق لنحو ساعة حسبوا معه أنهم مستغرقون في حلم طويل؛ رجعوا لسنوات طويلة مضت وتذكروا دخولهم العمارة أول مرة يعاينون الشقق ذات المساحات والواجهات المختلفة، والتفاوض على سعر لم يعد يكفي اليوم لشراء غرفة واحدة، انتهاءً بتوقيع عقد تضمن نصًا صريحًا أن حق استخدام السطوح قاصرٌ على مالكٌ العمارة دون غيره، وهنا انتبهوا.
ران خرس كلامي على (الجروب) لنحو ساعة، قطعتها رسالة صوتية من ساكن عُرِفَ عنه النكتة وخفة الدم؛ بدأها بضحكة سخرية عالية الصوت طويلة الذيل تلاها تعقيب (ياااه .. هو إحنا مغفلين للدرجة دي؟)، ثم ضحكة أخرى كسابقتها. انساب بعدها نهر ضحكات وتعليقات ساخرة أعادت الجيران إلى سيرتهم الأولى.
ذكر لي صديقي القصة ونحن نشاركه ضحكه وقفشاته. ثم رحت أفكر في أسباب اندفاع بعض السكان دون وعي أو تفكير خلف رأي بعينه؛ مؤيدًا كان أو معارضًا، وكذلك بحث كل فريق عما يؤيد وجهة نظرة ليثبت خطأ الفريق الآخر، وتغافله عامدًا عما كان يقع في طريق بحثه من بيانات تخالف وجهة نظره، بل وتجاوز البعض باتهامه الآخرين بالسطحية.
كانت العوائد المادية المنتظرة حال إبرام عقد شركة الاتصالات الجزرة التي اندفع خلفها الفريق المؤيد مغمض العينين، ناسين –وربما متناسين- أحق هو أم لا.
أما ما ساقهم دون إرادة منهم فغياب المنهج العلمي في التفكير للتحقق من تأثير أبراج الاتصالات على الصحة العامة، وكذلك غياب المصدر الموثوق فيه، فانطلق كل منهم يبحث في كراكيب ومخلفات المواقع الإليكترونية، مكتفيًا بالعناوين عن قراءة التفاصيل، في دلالة على سطحية المعرفة.
أما تبعات ذلك، فإن ما وقع مع برج الاتصالات يمكن أن يتكرر مع غيره من توجهات سياسية ودينية؛ يُطرح رأي يحقق إيجابيات لفئة وربما سلبيات لأخرى، فيتعصب هذا، ويتشدد ذاك، على غير علم وتغشى أعينهم ضلالات تُصدِر القلب، وتحجُر على العقل.
لَكَمْ تكتظ فضاءات التواصل الاجتماعي بنماذج مكررة لمناهج فكر تحاكي ما وقع مع برج الاتصالات، يؤكد فيها كل تأشير إعجاب تحصل عليه إلى غياب منهج علمي يعول عليه لتأصيل ثقافة علمية في طبقات المجتمع كافة، وعن كثيرين يعيشون بأجسادهم في القرن الحادي والعشرين، بينما تقيم عقولهم في خيام القبيلة.